مطهر تقي
عشرون عاما تمر على رحيل الثائر والسياسي والوزير والسفير اللواء يحيى محمد المتوكل.
والحديث عن تلك القامة السياسية يجعلني وغيري في حيرة اختيار البداية والنهاية لسيرة ذلك الرجل وخصوصا والاربعين عاما من تاريخ الثورة والجمهورية وبناء الدولة اليمنية الحديثة الذي عاشها من عمره كان أحد صناعها ومفكريها الأساسيين…. ولكني سأتفق مع قلمي أن تكون بداية الحديث من يوم علمي بفاجعة استشهاد ذلك الإنسان القريب من قلبي:
في الساعة الثامنة (تقريبا) من صباح يوم الثلاثاء الرابع عشر من يناير 2002 وأنا في فندق شيراتون القاهرة وكنت مستعدا للتحرك في زيارة رسمية الى الاسكندرية وكان الإفطار أمامي وسيارة وزارة السياحة المصرية تنتظرني في ساحة الفندق رن تليفون الغرفة.. فإذا بي أسمع صوت الصديق العزيز السفير عبدالعزيز ناصر الكميم وبعد التحية قال: فيه خبر مزعج… تعرض اللواء يحيى المتوكل لحادث مروري في لحج ويبدو أن وفاته مؤكدة عظم الله أجور الجميع.
أصابني الذهول والوجوم لدقائق بعدها قررت مغادرة القاهرة وإلغاء رحلتي الى الاسكندرية وما بقي من أيام الزيارة وتركت الفطور ثم اتصلت بالأخ العزيز محمد يحيى الجعدبي مدير الخطوط الجوية اليمنية في القاهرة وطلبت منه الحجز على الطائرة القادمة من باريس الى صنعاء وجمعت ملابسي على عجل وتوجهت الى المطار فالوقت قصير.. وفي الطائرة التقيت بالشيخ مجاهد ابو شوارب الذي كان قادما من باريس وكان في حزن شديد على صديقه ورفيق دربه…. وفور وصولي مطار صنعاء توجهت مباشرة الى منزل الأستاذ العزيز حسين المسوري الصديق الصدوق لأخيه يحيى فوجدته غارقا في حزن له أول وليس له آخر أما عن المشاعر التي رافقت الآلاف من الذين شاركوا في تشييع الجثمان فتلك حكايات تخص كل مشارك.
ماذا اكتب بعد عشرين عاما من رحيل صاحب الابتسامة الساحرة والقامة الوطنية ومن أين أبدأ???
لعل خير بداية عن الثائر الملازم يحيى محمد المتوكل والوصية التي تركها لإخوته وهو في طريقة مع زملائه أعضاء تنظيم الضباط الأحرار لصنع مجد اليمن الجديد في ليلة السادس والعشرين من سبتمبر من عام 1962 حيث يقول : إخواني الأعزاء عباس واحمد وعبدالرحمن وعبدالله ومحمد حياكم الله تحية الحرية والعدل والمساواة.. إخوتي إنني أكتب اليكم هذه الوصية إذا قدر الله أن أموت أو هذه الرسالة أن قدر لي أن أحيا واثقا أنكم ستكونون في كلا الحالين عند حسن ظني من حب وتضحية في سبيل الأمة والوطن إخوة واتحاد في سبيل حياة أفضل.
إخوتي انني ذاهب اليوم لأداء الواجب المقدس واجب المواطن نحو وطنه واجب الابن نحو أبيه وأخيه وأمه وأخته.. انني ذاهب ولدي شعور أنني سأموت وأن جسمي هو الذي سيموت أما روحي فستبقى حية فيكم أنتم إخوتي وفي كل مواطن يشعر نحو وطنه بذرة من حب وإنني اضحي وانا مطمئن لأنني سأضحي من أجل وطني وأمتي هذه عقيدتي اعتنقها مستعينا بربي على عدوي وعدو وطني وعدو امتي راجيا منه النصر.. اخوتي لتكونوا معي عونا على العدو وإن مت فلتحلوا محلي في المعركة.
اخوتي ان قدر الله لي ان اموت وقدر للثورة ان تنجح وللحق ان ينتصر وللباطل ان يخبو ويموت فلتحيوا هنيئا في ظل انتصار الثورة ولتنادوا معي بأعلى اصواتكم لتحيا الجمهورية ويعيش الشعب حرا سعيدا بحريته واذا ما قدر الله للثورة ان تفشل وليس هذا بعيب فلتكونوا غصة في حلق العدو ولتجاهدوا ولتضحو من أجل الوطن حتى تنصروا الحق وتخذلوا الباطل والله الى ذلك موفقكم.
إن عظمة هذا الرجل قد اختزلها في هذه الوصية التي أكد من خلالها إيمانه بالله ثم بوطنه وبأمته وبإيمانه الراسخ في حتمية تغيير حياة شعبه الى الأفضل من الحياة والحرية وهو لا ينسى ان يدعو اخوته لرفع اصواتهم معه تحية للجمهورية وللشعب الذي يتمنى ان يكون حرا وسعيدا ومنتصرا ضد الباطل والتخلف.
عجيب أمر هذا المتوكل كيف بدأ مسيرته مع وطنه وكيف استمر على طريق الثورة يحميها من الأخطار التي بدأت تحوم حولها فترك المناصب مع زملائه الضباط الأحرار وذهبوا من الاسبوع الأول من الثورة للدفاع عنها…. وقد كلف الملازم يحيى بالتوجه نحو محور حجة ومنها شهارة مسقط رأسه على رأس قوة عسكرية يشاركه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر مع قبائل حاشد حتى أصيب اصابات بالغة في ابريل 1963 فأسعف الى مصر للعلاج حيث بقي قرابة ستة أشهر.
أما في معركة السبعين والدفاع عن صنعاء فكان من خلال منصبه عضوا في مجلس الدفاع ثم مديرا لمكتب بطل السبعين الفريق حسن العمري فقد ابلى بلاء عظيما حتى تم النصر بالتحامه في قرية المساجد في بني مطر مع أخيه احمد الذي كان أحد قيادات الجيش التي قادها العقيد عبداللطيف ضيف الله والشيخ احمد العواضي القادمين من الحديدة حيث تم النصر بكسر حصار العاصمة صنعاء فأعيد ليوم السادس والعشرين مجده يوم 1968/2/8
ومن خلال منصبه نائبا للقائد للعام للقوات المسلحة ولرصانته السياسية كلفه القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري بالسفر الى السعودية (مارس1970) لينقل موقف اليمن الرسمي من المصالحة الوطنية.
وفي حركة 13 يونيو 1974 كان احد اعضاء مجلس القيادة برئاسة ابراهيم الحمدي ووزيرا للداخلية حتى عام 1976 وتنقله بعد ذلك سفيرا لليمن في اكثر من بلد حتى عاد محافظا لمحافظة إب عام 1985.
وكما كان صانعا في عهد السلال وعهد الإرياني ثم الحمدي كان صانعا في زمن علي عبدالله صالح حيث لعب ادوارا مهمة من خلال دوره الريادي في المؤتمر الشعبي العام وتقلده منصب وزير الداخلية(1993_1995) في احلك ظروف الازمة السياسية بين المؤتمر والاشتراكي التي ادت الى حرب 1994 وكان نجمه متألقا في قيادة المؤتمر ودوره فاعلا كذلك في المجلس الاستشاري الذي كان يضم معظم قيادات العمل الحزبي فكان بما وهبه الله من امكانات التوفيق حين يشتد الخطب السياسي بين تلك المكونات أن صار محل اجماعها ..وكلمته وحنكته هي الفيصل في مواصلة عجلة الحياة السياسية. فكان الاشتراكي وكذلك الإصلاحي والناصري والبعثي…. يشعر ان يحيى المتوكل المؤتمري هو قريبا منه ويشاركه في وعيه السياسي والهم الوطني وان بينه وبين المتوكل قواسم مشتركة فتلك موهبه تميز بها المتوكل عن غيره كما تميز بمواقفه الشجاعة مع كل الرؤساء السابقين خصوصا مع الرئيس علي عبدالله صالح الذي كان يصارحه عن الأخطاء والتجاوزات التي سيطرت على بعض اركان الدولة وكان الرئيس يحترمه ويضع له حسابا خاصا نظرا لمكانته السياسية وعلاقاته المتميزة مع كل القوى السياسية.. وفي المقام الاول احترامه لنفسه ومكانته فقد كان مع الدكتور عبدالكريم الإيراني ( اقرب السياسيين لعلي عبدالله صالح والاكثر صراحة معه حتى وصل حال العلاقة بينهما والرئيس في اوقات مختلفة الى المقاطعة الوقتيه( الحنق) التي كان يسارع فيها علي عبدالله صالح للتواصل معهما وارسال الوسطاء فقد كان من الصعب على احد ان يسد مكانهما ويؤدي دورهما.
واذكر حديثا من الأستاذ يحيى وكان يومها حزينا ومتألما من الرئيس لدرجة انه قرر مغادرة صنعاء وبدأ بالفعل بنقل مكتبته وبعض مقتنياته الشخصية الى مزرعته في تهامة (الجر) وقرر ان يكون آخر عمل يقوم به هو الإشراف على انتخابات المؤتمر الشعبي العام التي ستجرى في مارس 2002 وذهب بالفعل غاضبا ليقضي شهر رمضان في مزرعته وهناك التقى بالرئيس الذي كان في مزرعته المجاورة لمزرعة الأستاذ يحيى حيث تم العتاب بينهما وعودة الصفاء الى علاقتهما وبعد رمضان ذهب الى عدن للإشراف على الانتخابات يرافقه صديقه اللواء عز الدين المؤذن واخوه الاكبر عباس وسكرتيره يحيى الشاوش، وفي طريقهم الى لحج استشهد بحادث مروري (وكان يفضل الجلوس عند سفره بجوار السائق) وكانت الفاجعة صباح 2002/1/13.
وقد تعمقت علاقتي بالأستاذ يحيى المتوكل بعد الوحدة من خلال منصبي التنظيمي كرئيس للمؤتمر الشعبي العام بأمانة العاصمة (ووكيلا لوزارة الاعلام) ومن خلال ايضا علاقتي المتميزة مع الاستاذ حسين المسوري أمين العاصمة (ومقيله الجامع)من تربطه صداقة عمر مع اخيه يحيى (من عام1958) وعرفته عن قرب وأسرني بعلو أخلاقة وعمق شخصيته فقد كان عظيما في مواقفه معي ومع غيري حتى ان منزله وكشك حديقته كان مقصدا لكل السياسيين والشخصيات الاجتماعية وكل ذي حاجة او مشكلة فقد تميز قلب ذلك الرجل حتى اتسع لكل الناس وكان لدية القدرة العجيبة على اقناع كل من عرفه انه محل تقديره وإعجابه ومحبته وكان بابتسامته المتميزة يواجه الشدائد فقد زرته لتعزيته بوفاة نجله الشاب احمد والحزن والوجوم على وجهي فإذا به يسالني عن احوالي وماهي اخبار عملي(كان هناك بعض المضايقات تواجهني في عملي) فقلت له يا استاذ يحيى مش وقت العمل لقد وصلت لتعزيتك فابتسم بهدوء وقال: لقد سبقني يا مطهر وسألتقي به يطول الزمان أو يقصر … وفعلا التحق بابنه بعد أقل من عام وترك ذكرى عظيمة في نفوس كل من عرفه وانا واحد منهم.. لازال ذكراه في الخاطر وسيظل… فكيف يغيب عن ذاكرة كل الأجيال التي عرفته وهو أحد رجالات اليمن واحد رموزه الكبار ومن كان له شرف المشاركة في صنع اليمن المعاصر….
الفخر لأسرته يمثلهم نجله الأكبر محمد واخوته وآل المتوكل على الدور العظيم للواء يحيى في مسيرة اليمن المعاصر.
والشكر لابنه محمد الذي أنشأ مؤسسة باسم والده يحيى لتكون نبراسا وشاهدا على عطاء تلك الشخصية المتميزة.
رحمة الله عليك أيها الأستاذ والأخ والصديق والرمز يحيى محمد المتوكل وإنا بك للاحقون
2023/1/13